هديل حمامة ماسينيون

ظلَّ يقرأ الفاتحة على روح الحلاج أينما حلَّ

محمد رضا نصر الله خلال زياته لمرقد الحلاج في العراق
محمد رضا نصر الله خلال زياته لمرقد الحلاج في العراق
TT

هديل حمامة ماسينيون

محمد رضا نصر الله خلال زياته لمرقد الحلاج في العراق
محمد رضا نصر الله خلال زياته لمرقد الحلاج في العراق

ما أزال أتذكر ظهيرة ذلك اليوم في بداية الستينات الميلادية، حين رافقتُ والدي صغيراً إلى الشاطئ الشرقي من نهر دجلة، قريباً من بغداد، لزيارة قبر الصحابي الجليل سلمان الفارسي في (سلمان باك)، حيث يرتفع طاق كسرى الباقي من طيسفون (المدائن) التي بناها الإغريق واستولى عليها الفرس. في ظلال الطاق - آنذاك - وجدنا بدوياً عراقياً يترنم بصوته على وتر ربابته، دون أن يعي أن حضارة بابل كانت بالمرصاد لهذا الطاق.

محمد رضا نصر الله خلال زياته لمرقد الحلاج في العراق

لويس ماسينيون، المستشرق الفرنسي الشهير، كان قد تردد على العراق، واقفاً عند تجربة سلمان وشخصيته في طريق عودة ماسينيون من العمارة القريبة من البصرة، اتهمه واليها حازم بك التركي بالتجسس، فخفره مريضاً مهدداً بالإعدام إلى بغداد على متن سفينة توقفت قريباً من «سلمان باك». هناك وجد نفسه يصغي إلى هديل حمامة محنية، سرعان ما بدد اكتئابه المكروب، ليجد في (زائر) سلمان الفارسي (الغريب) طوق نجاة مشعاً بانفراج محنته. وقد بهرته حينها مروءة الألوسيين علي ومحمود شكري، الذين تدخلوا لإطلاق سراحه ومعالجته، ليتمعن في أخلاق الضيافة العربية. وقد أصبح إثر ذلك في حالة هيجان روحي قادته إلى قراءة القرآن الكريم، بعدما تعلم مبادئ اللغة العربية، باحثاً عن أثر المسيحية في الإسلام وتماثل قيمة الزهد بين المسلمين والمسيحيين. وكان هذا دافعاً لدخوله عالم التصوف الإسلامي عبر أبي عبد الله وأبي المغيث الحسين بن منصور الحلاج. الحقيقة في بحثه القصير المكثف «سلمان الفارسي وبواكيره الروحية»، التي ضمنها عبد الرحمن بدوي في كتابه التأليفي المترجم «شخصيات قلقة في الإسلام» الصادر سنة 1947. وكان ماسينيون قد جاء من القاهرة إلى بغداد بين سنتي 1907 و1908، يحفزه غاستون ماسبيرو، الخبير الآثاري الفرنسي، لاستكشاف قصر الأخيضر الساساني جنوبي كربلاء. شملت رحلة ماسينيون دراسته عن لهجات بغداد السبع، وكذلك دراستيه الرائدتين عن «خطط الكوفة» و«خطط البصرة»، التي أفاد من نتائجها البحثية المؤرخان العراقي صالح العلي والتونسي هشام جعيط، في دراسة التاريخ العربي الإسلامي في هاتين الحاضرتين العريقتين بمدرستهما في الفكر واللغة والأدب.

رسم تخيلي للحلاج

التعرف على الإسلام والتراث

كان ماسينيون قد ولد في قرية قريبة من باريس سنة 1883. حيث كان والده الطبيب قد تحول من مزاولة الطب إلى ممارسة الرسم والنحت. نشأ في بيت متصارع بين ثقافة والده الأنوارية المناهضة لسطوة الكنيسة، وثقافة والدته اليمينية الملكية المتمسكة بالقيم المسيحية. وما إن أنهى ماسينيون مرحلة التعليم المتوسط والثانوي، حتى بدأ مرحلة التعليم الجامعي في جامعة السوربون، حاصلاً على دبلوم الدراسات العليا في الجغرافيا والتاريخ، متأثراً بأجوائها الفلسفية، مبتعداً عن التزام والدته الديني. كما حصل على دبلوم في اللغة العربية ودراسة لهجاتها من معهد اللغات الشرقية العريق. ربما كان ذلك نتيجة للتجنيد في الجيش الفرنسي المحتل للجزائر، التي زارها سنة 1904 في مهمة استخبارية تعرض خلالها لاعتداء الأهالي على مشارف الصحراء الكبرى، مما دفعه لدراسة اللغة العربية والتحدث بها. كما زار المغرب باحثاً في تجربة الحسن بن الوزان (ليون الأفريقي)، الرحالة والجغرافي الذي ألف كتاب «وصف أفريقيا»، والذي اقتيد إلى بلاط روما أسيراً، فعمده البابا ليون العاشر وقرَّبه إليه، ناقلاً إلى بلاطه تقاليد المراسم العربية وألقاب حكامها.

وقد دُعي ماسينيون سنة 1905 لحضور المؤتمر السنوي للمستشرقين في الجزائر، حيث التقى باليهودي المجري غولد تسيهر، مؤلف كتاب «العقيدة والشريعة في الإسلام»، وبالإسباني أسين بلاثيوس، الذي زاوج بين «رسالة الغفران» للمعري و«الكوميديا الإلهية» لدانتي. وهكذا بدأ ماسينيون يقترب تدريجياً من عالم الإسلام والتراث العربي. وبفضل تعرفه في شبابه إلى هنري ماسبيرو، ابن عالم الآثار غاستون ماسبيرو، الذي أوحى إليه بالتنقيب عن قصر الأخيضر الساساني في جنوب العراق، تكررت زياراته إلى القاهرة منذ سنة 1906. لاحقاً أصبح أستاذاً في الجامعة المصرية، ثم في الكوليج دو فرانس. ولم يكن كتابه «محاضرات في تاريخ الاصطلاحات الفلسفية العربية»، الذي طبعه المتحف العلمي الفرنسي للآثار الشرقية في القاهرة، إلا ثمرة لعلاقته بماسبيرو. وقد ألقى ماسينيون هذه المحاضرات على طلبته، ممن أصبحوا دكاترة بارزين، من بينهم طه حسين وأحمد ضيف وعبد العزيز فهمي. لمسوا في أستاذهم اطلاعاً واسعاً على التراث العربي والفكر الإسلامي، وسعياً للتوفيق بينهما وبين الفكر الغربي الحديث.

لويس ماسينيون

ماسينيون والحلاج

كان ماسينيون يسعى بكل جهده لإطلاق مشروعه البحثي الموسوعي الضخم «آلام الحلاج»، متشرباً إيمان أمه المسيحي، وهو يغوص في أعماق الفكر الصوفي. بذل الجهد في دراسة الفكر الإسلامي، وكرَّس وقته لمعرفة التراث العربي، ليصل في النهاية إلى دعوته الإبراهيمية التي تهدف إلى التلاقي بين المسيحية والإسلام، معتبراً اللغة العربية لدى العرب طريقاً لبلوغ الكلمة الإلهية. ومن العجب أن تقوده دراسة اللغة العربية وإتقان خطها إلى معرفة السيد المسيح، مشدوداً إلى سلوك الزهد الإسلامي في ضوء الزهد المسيحي. بل إنه رأى في آلام السيد المسيح انعكاساً لآلام الحلاج، ووجد في طهر السيدة مريم العذراء طهر السيدة فاطمة الزهراء. هذه القراءات قادته إلى التأمل في القرآن الكريم، الذي وجد سوره تدور حول معجزات موسى وسحره، وطب المسيح، وبيان محمد.

وهكذا، تصور ماسينيون أن دموع هاجر هي التي فجَّرت ماء زمزم، وأن حجر إسماعيل كان بداية ولادة اللغة العربية، تمهيداً لانبعاث الإسلام بقرآنه الكريم. تركت ضيافة الألوسيين أثراً عميقاً في نفسية ماسينيون وفكره، مما جعله يجد في الصوفية الإسلامية انعكاساً لغنوصيته المسيحية. تمثل ماسينيون صلب السيد المسيح في صلب الحلاج، فكرَّس ثماني سنوات من حياته، بين عامي 1914 و1922. لتأليف عمله الموسوعي «آلام الحلاج». تناول في أطروحته، التي حصل بها على الدكتوراه من الكوليج دي فرانس، حياة الحلاج الاجتماعية والسياسية والفكرية، ودرس طواسينه الشعرية وأثره الصوفي في العديد من حواضر الشرق العربي والآسيوي.

 

شعرت حين وقفت أمام قبر الحلاج في منطقة العلاوي ببغداد وكأن هديل الحمامة المحنية التي سمعها ماسينيون قد تناهى إلى سمعي

لم يستثنِ ماسينيون في دراسته أثر الحلاج في دمشق، التي زارها في مهمة استخبارية أثناء الحرب العالمية الأولى مساعداً لجورج بيكو. تواصل مع علمائها ومؤرخيها، واطَّلع على مكتباتها وبحث في مخطوطاتها عن معنى كلمة الحلاج. نقل من مخطوطة كتاب «قاموس الصناعات الشامية» لمحمد سعيد القاسمي وابنه جمال ما أشبع نهمه البحثي. عمل هناك على تنظيم المعهد الفرنسي في دمشق، مستوحياً تنظيمه من المعهد الفرنسي في القاهرة، كما انضم إلى عضوية المجمع العلمي اللغوي في دمشق سنة 1919. وأصبح عضواً مؤسساً في مجمع اللغة العربية في القاهرة سنة 1932، وهي تنظيمات مستوحاة من الأكاديمية الفرنسية المؤسسة عام 1634. كان الحلاج محور اهتمامه الفكري والأكاديمي منذ البداية وحتى النهاية.

هذا وقد وصفه صديقه اللغوي العراقي الأب أنستاس الكرملي، منذ التقيا مبكراً في بغداد، بأنه «العالم الخبير على حداثة سنه»، مشيراً إلى أنه أتم مراجعة ما يقارب ألفي مصنف في كل ما يتصل بالحلاج وأفكاره ومحنته. أما الأكاديمي العراقي مصطفى كامل الشيبي، المتخصص في الدراسات الصوفية، فطالما أشاد بجهود ماسينيون «الحلاجية»، رغم تفوق الشيبي عليه في جمع وتحقيق ديوان الحلاج سنة 1973. كنت قد قرأت ذلك بعدما سمعت عن الحلاج لأول مرة عبر الشاعر المصري صلاح عبد الصبور في مسرحيته الشعرية «مأساة الحلاج» الصادرة سنة 1965، التي جسَّد فيها القلق الروحي والشطحات الصوفية للحلاج. وجدتُ أن صلاح عبد الصبور قد لامس أزمة نفسية وحيرة فكرية مشابهة لتلك التي كابدها ماسينيون، الذي ظل مفتوناً بالحلاج حتى النهاية، متمسكاً بالآية الكريمة التي أوصى أن تُدفن معه سنة 1962: (قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً) الجن: 22.

ظل ماسينيون يقرأ سورة الفاتحة على الحلاج أينما حلّ. أما أنا، فعندما وقفت أمام قبره في حي العلاوي ببغداد خلال زيارتي الأخيرة إليها، شعرت وكأن هديل تلك الحمامة المحنية التي سمعها ماسينيون قد تناهى إلى سمعي من بعيد.


مقالات ذات صلة

المترجم... شريك في الإبداع أم ظلّ مغيّب؟

ثقافة وفنون المترجم... شريك في الإبداع أم ظلّ مغيّب؟

المترجم... شريك في الإبداع أم ظلّ مغيّب؟

لماذا تتكرّر ظاهرة تغييب أسماء المترجمين عن أغلفة الكتب وصفحاتها الداخلية، وهل يعكس هذا تجاهلاً لدور المترجم في إعادة صياغة النصوص؟

هيثم حسين
ثقافة وفنون «وادي الفراشات»... مخطوطة الحكايات المفارقة

«وادي الفراشات»... مخطوطة الحكايات المفارقة

ثمة انتظام حكائي سردي موضوعاتي تحرص رواية «وادي الفراشات» لأزهر جرجيس («مسكيلياني»- تونس «الرافدين») على اقتفاء آثاره شبه الثابتة في روايتين سابقتين لأزهر جرجيس

حمزة عليوي
ثقافة وفنون إبراهيم فرغلي

إبراهيم فرغلي: عدت إلى القصة القصيرة لأتحرر من إرهاق الرواية

بعد رصيد من الأعمال الروائية، يعود الكاتب المصري إبراهيم فرغلي إلى القصة القصيرة من خلال مجموعته «حارسة الحكايات» الصادرة أخيراً عن «دار الشروق» بالقاهرة

منى أبو النصر (القاهرة)
ثقافة وفنون «الأدب العرفاني»... تجليات روحانية في حدائق الإبداع

«الأدب العرفاني»... تجليات روحانية في حدائق الإبداع

عن دار «الوفاء لدنيا الطباعة» بمدينة الإسكندرية صدر كتاب «الأدب العرفاني - في الشعر والقصة والرواية»، للناقد والكاتب أحمد فضول شبلول

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون رواية «الدولفين» للراحل عدنان منشد إلى الإنجليزية

رواية «الدولفين» للراحل عدنان منشد إلى الإنجليزية

صدرت أخيرا الترجمة الإنجليزية لرواية «الدولفين» للكاتب العراقي الراحل عدنان منشد. وأنجز الترجمة الكاتب والمترجم سعيد الروضان

«الشرق الأوسط» (بغداد)

المترجم... شريك في الإبداع أم ظلّ مغيّب؟

المترجم... شريك في الإبداع أم ظلّ مغيّب؟
TT

المترجم... شريك في الإبداع أم ظلّ مغيّب؟

المترجم... شريك في الإبداع أم ظلّ مغيّب؟

لماذا تتكرّر ظاهرة تغييب أسماء المترجمين عن أغلفة الكتب وصفحاتها الداخلية، وهل يعكس هذا تجاهلاً لدور المترجم في إعادة صياغة النصوص؟ كيف تؤثّر هذه الممارسات على مصداقيّة النصوص المترجمة وعلى فرصها في الوصول إلى دوائر الأضواء الأدبية والمنافسة في الجوائز العالمية المرموقة؟ وهل يمكن لأدب مترجم أن يُحافظ على خصوصيته إذا عُومل كنصّ تقنيّ أو منتج صناعيّ، بعيداً عن حساسيّة الترجمة الأدبيّة وجماليّاتها؟ كيف يمكن لبعض التصرّفات الراهنة في العالم العربيّ أن تواكب التحدّيات الثقافية وتضمن أن يكون للمترجمين مكانة اعتبارية تعزّز من دورهم في المشهد الأدبيّ؟

من البديهيّ القول إنّه لا يمكن تجاهل الدور المحوريّ الذي يلعبه المترجمون في وصل الثقافات وجسر الفجوات بين الأمم عبر ترجماتهم، وإنّهم، كفاعلين ثقافيّين، يعملون في منطقة توازن دقيقة بين الحفاظ على أمانة النصّ الأصليّ وجماليّات اللغة الهدف، والحفاظ على روح النصّ وضرورات السياق الثقافيّ. ومع ذلك، تراهم يظلّون في كثير من الأحيان في الهامش، مغيّبين، سواء من خلال تهميش اسمهم أو التعامل مع جهودهم كعمل تقنيّ خالٍ من الإبداع، أو كأنّ دورهم ينتهي بمجرّد حصولهم على أجورهم الماليّة.

ومعلوم أنّ الترجمة عمل إبداعيّ يتطلّب حساسية أدبية وفنّية عالية، والمترجم في هذا الإطار ليس ظلاً للنصّ الأصليّ، بل هو شريك، و«صاحب» النصوص في اللغة المترجَمة بصيغة ما، يُسهم في تطويرها وإغناء معانيها، كما أكّد أمبرتو إيكو في كتابه عن الترجمة: «أن نقول الشيء نفسه تقريباً»؛ حيث أشار إلى أنّ الترجمة هي عملية «قول الشيء نفسه ولكن بطريقة مختلفة».

أحد أبرز مظاهر التهميش تتجلّى في عدم وضع أسماء المترجمين على أغلفة الكتب، كما هو الحال في بعض دور النشر العربية، التي تكتفي بذكر اسم المترجم داخل الصفحات. هذا الأسلوب ينزع عن المترجم حقّه في الظهور في المقدّمة، ويضيّع على القارئ فرصة اكتشاف اسمه من الغلاف؛ لأنّه يتعامل مع رؤى المترجم واجتهاده، ما يجعل حضوره الاعتباريّ ضرورياً لضمان مصداقيّة النصّ. وفي حالة الترجمة من العربية إلى الإنجليزية واللغات الأخرى، نشير هنا إلى حالة جائزة «كتارا للرواية العربية»؛ حيث يتمّ تغييب أسماء المترجمين عن الأعمال المترجمة إلى الإنجليزية أو الفرنسية، سواء على الأغلفة أو حتى داخل الصفحات، وهذه الطريقة تقدّم النصوص والروايات الفائزة بـ«كتارا» وكأنها صادرة باللغة الإنجليزية أو الفرنسيّة من دون أيّ وسيط، متجاهلةً الدور المركزيّ للمترجم في تشكيل النصّ، ما يُعتبر طمساً لجهدٍ إبداعيّ أساسيّ، وحرماناً للنصّ المترجم من حقوق البحث عن الظهور في اللغات الجديدة في المجال الذي يقدّم فيه.

الجائزة التي يفترض بها الاحتفاء بالرواية العربية الحديثة قد تعود بمفعولٍ عكسيّ في حالة ترجمة الأعمال المتوّجة بها، فتقدّم نصوصاً غفلاً من اسم المترجم لقارئ مهتمّ بأدقّ التفاصيل، يختار بعناية ما يقرأ ولماذا يقرأ.

وفي هذا السياق تبرز قضية أخرى لا تقلّ أهمّية وهي الاعتماد على شركات الترجمة بدلاً من المترجمين المستقلّين أو ذوي الخبرة الأدبية. هذه الممارسة - وإن أمكن تبريرها في مجالات محدّدة - تؤثّر على جوهر النصوص ذاتها، ممّا يؤدّي إلى فقدانها لفرادتها وجمالياتها وخصوصيتها التي تُعتبر جزءاً رئيساً من روح النصّ الأصليّ. والاستعانة بشركات ترجمة، من دون وضع أسماء المترجمين وإعلان هويّاتهم، يعني أنّ النصّ الإبداعيّ يُعامَل كمنتج قياسيّ، وليس كعمل إبداعيّ مميّز. في هذه الحالة، تُصبح الترجمة أشبه بخطّ إنتاج صناعيّ؛ حيث تُفقد النصوص خصوصيّتها بسبب التعامل معها كموادّ قابلة للنقل من دون مراعاة تفاصيلها الفريدة. هذا الفقدان للخصوصية يُحدث خللاً في تلقّي النصوص المترجمة؛ لأنّ القارئ في اللغة الهدف يتلقّى نسخة منقوصة من النصّ الأصليّ، تفقد روحها وشغفها الذي أراد المؤلّف، والمترجم المعلن عن اسمه وهويّته نقله في حال تثبيته.

ولا يخفى أنّه في عالم الأدب والترجمة، هناك جوائز أدبية كبرى تُدرك أهمّية دور المترجم كشريك إبداعيّ إلى جانب الكاتب، منها جائزة «مان بوكر الدولية البريطانية»، على سبيل المثال، تُعدّ نموذجاً رائداً في تكريم المترجمين. إذ تُمنح الجائزة مناصفةً بين المؤلّف والمترجم، ما يعكس إيماناً راسخاً بأنّ العمل الأدبيّ المترجم هو نتيجة لجهدٍ إبداعيّ مشترَك. هذه الخطوة بالإضافة إلى أنّها تكريم رمزي ومادّيّ، هي إقرار بأهمية المترجم في إبراز النصوص وتحقيقها لأقصى درجات التأثير والجمالية في اللغات الجديدة.

حين يُنشر عمل أدبيّ دون ذكر اسم المترجم، فإنه يُلحق الضرر بالنصّ نفسه، حيث يحرمه من فرص المشاركة في الجوائز الأدبية العالمية المرموقة المخصّصة للأعمال المترجمة. مثل هذه الجوائز، كجائزة BTBA (Best Translated Book Award) الأميركية، تعطي قيمة كبيرة للترجمة والمترجمين وتعتبرهم جزءاً أساسياً من الإبداع الأدبيّ. وعدم ذكر اسم المترجم يجعل النصّ مجهول الهويّة من الناحية الاعتبارية، وبالتالي يُستبعد من المنافسة في هذه الجوائز التي تُعزّز مكانة النصوص المترجمة وتضعها في دائرة الضوء العالميّ.

قسم من دور النشر يعتمد على شركات الترجمة بدلاً من المترجمين المستقلّين أو ذوي الخبرة الأدبية

ومع ظهور أدوات وتطبيقات الترجمة الآلية وتطوّر الذكاء الاصطناعيّ - وهذه أدوات مفيدة وتساعد في الترجمة - قد يتبدّى أنّ الجانب البشريّ في الترجمة مهدّد بالتهميش، لكنّ النصوص الأدبية، بما تحمله من حساسية وجماليات، لا يمكن أن تُترجم بطريقة آلية خالية من الإبداع، والمخرج النهائيّ هو الإنسان الذي يضيف بُعداً ثقافيّاً وفنّياً يعجز الذكاء الاصطناعي عن تحقيقه، ما يجعل دوره حيويّاً في الحفاظ على روح النصوص وجماليّاتها.

يُعدّ ذكر اسم المترجم على غلاف الكتاب إعلان مسؤولية أدبيّة وثقافية؛ لأنّ وجوده يعني أنّ هناك شخصاً يتحمّل مسؤولية جودة الترجمة، ويُطمئن القارئ إلى أنّ النصّ قد خضع لمعالجة جادّة تعكس قيمته. وعلى النقيض من ذلك، فإنّ غياب الاسم قد يؤدّي إلى تقويض القيمة المعنوية للنصّ المترجم نفسه. لذا من المهمّ أن يصبح ذكر اسم المترجم معياراً للأعمال المترجمة؛ لأنّه يعكس الاعتراف بالدور الثقافيّ والإبداعيّ المستحقّ، ومن المهمّ تعزيز حضور المترجم إعلامياً وثقافياً حين الاحتفاء بالكتب التي ترجمها؛ لأنّ ذلك ضرورة لإرساء قيم العدالة الثقافية وتعزيز مكانة الأدب العربيّ المترجم في الساحة العالمية.

* كاتب كردي سوري.